بجانبى
فى احدى الإشارات الضوئية , وقفت تلك السيارة الكاديلاك نافيجيتور بلونها الفضى
الأخاذ ,وحجمها المهيب الذى يبرهن لك على أن السفن أحيانا تسير على الأسفلت.
أخذت
أقلب نظرى حولها بهاجس غريب ,ماذا لو كنت أملك سيارة مثلها .؟؟
بل
وقمت بتشغيلها كــ ( ميكروباص ) !! طبعا ستكون الأجرة مضاعفة طبقا لمزايا السيارة
.
فأنت
تجلس فى التكييف وجهاز الاستريو يفوح بموسيقى كلاسيكية حبذا لو كانت لـ
(
تشيكوفيزكى ) أو ( كارل أورف ) والركاب مستمتعين بالدانوب الأزرق أو الكارمينا
بورانا عوضا عن ملحمة ( هاتى بوسة يابت ) الشهيرة التى تصم آذانى ... ميكروباص
كاديلاك ! يا للروعة .
لكنى
توقفت عند تلك الحلية المثبتة عند الإطارات , كانت رائعة بحق , وبرغم من أنها مجرد
حلية ذات لون أحمر براق تصدر حركة موجية حادة صانعة تجويفا وهميا وكأنها ترس يدور
فى حلقة لا نهاية لها حتى غبت تماما مع تلك الحركة الدائرية وكأننى سقط فى دوامة
ما . رحت أتخيل لو كانت الحياة هى ذلك الترس المثبت الذى يدور بنا ويجبرنا على
الركض معه وبنفس سرعته , غير مكترث بمن يسقطون أو يلهثون من فرط الإعياء .
تبدأ
صغيرا ممتلئ الوجدان بالحيوية والأمل , لا مشاكل لديك سوى أنك خسرت الأسبوع الماضى
أمام فريق الشارع الآخر , أنت فاشل منحط لأنك جاملت صديقك ( كلبظ ) على حساب مصلحة
الفريق وجعلته يقف حارسا للمرمى , وها هو الفريق يخسر بسببه , وهاهى جارتك الصغيرة
التى تقفز بين خطوط الطباشير وبين رفيقاتها فى سعادة , فكلاكما يمارس عملا مشينا
فى نظر الآخر , كرة القدم صاخبة مملة يمارسها الأطفال الغوغائيون .
بينما
عروستى تمارسها الفتيات المدللات لأنهم لايستطيعون لعب الكرة .
و
فى الصباح ترتدى مريولا مضحكا وقد حملت أكتافك بحقيبة مليئة بالكراسات والكتب ,
تناديك جارتك فى حماسة :يا حماااااده خلى
بالك من اختك بسنت , وتتأبط بسنت ذراعك فى براءة نحو المدرسة وأنت تشعر أنك بطل .
تكبر
قليلا ... اهتماماتك تتغير , وبالطبع أم بسنت تتغير , لم يعد مسموحا لنا نحن من كنا صغار الأمس
بممارسةما كنا نفعله , والسبب .. لقد كبرتم !! إذن لما لا نشاهد التلفاز لوقت
متأخر .؟ لأنكم صغار بالطبع !! ... لا نفهم شيئا , لكننا نشعر بأن هناك شئيا قد
تغير. لم نعد نذهب للمدرسة سويا , ولم نعد نلعب فى بيت أحدنا الآخر فى الأعياد أونجلس
متجاورين فى الفصل , و ( كلبظ ) لم يعد يهتم بالكرة من الأساس ومنشغل بأسرة
الإذاعة المدرسية المملة , و هناك من ازداد طولا بدرجة مفزعة , ومن نمت له ذقن
خفيفة جعلت من اسمه ( الشيخ سوكة ) . سوكة غريب الأطوار
تكبر
قليلا ... المسافات تتزايد وتتسع , بل وأصبح ممنوعا علينا أن نتحدث وإلا سقط على
رأسك جبل من اللوم والشتائم المتوارية خلف قناع النصح من أم بسنت لأننا كبرنا طبعا
!
تعود
لتمسك بكتاب الأحياء لتلعن هرمون التيستيسيترون والأستروجين الأحمقان اللذان لا
يكفان عن التفرقة بينكما , ثم تمسك بكتاب النصوص لتقرأ قصيدة المساء لخليل مطران
وأنت تتلوى ألما .أنت تحب بسنت , تلك الصغيرة التى كانت تلهو معك فى دارك أو فى
غرفتها وتذهب معك للمدرسة أصبحت محرمة كليا عليك . حتى ( كلبظ ) أصبح مهتما بإطالة
شعره وأظافره والوقوف على جانب الطريق يغازل المارة فى قبح . وهناك من أصبح يصفف شعره بالـ ( فوزلين ) كما ينطقها الأستاذ صبحى متهكما عليه لأنه
يقلد عمرو دياب , وهناك من حلق رأسه تماما تشبها بـ ( حسام حسن ) بعد بطولة عام
1998 وأيضا يتهكم الأستاذ صبحى عليه لأنه يتخذ من لاعب الكرة قدوة له , حتى الشيخ
سوكة لم يسلم من التهكم لأنه يصر على إطلاق لحيته
فالأستاذ صبحى يقول أنه سيصبح يوما ما ( بن لادن ) الجديد .
تكبر
قليلا ... انت مع بسنت الآن فى كل وقت , لقد أصبحتم شباب جامعيين ناضجين شاكرين
فضل التكنولوجيا التى جلعت لكم جهازا يسمى ( موبايل ) بغض النظر عن أن رقمها يحمل
اسم ( فتحى ) ورقمك فى هاتفها يحملاسم ( ميرفت ) حتى لا تثيرون الشكوك من حولكم .
كلبظ
أصبح اسمه ( شرو ) – بكسر الشين - وقد أصبح يجيد البصاق وافتعال المشاكل بلا داع
سوى استعراض مهاراته الصوتية النابية أمام حفنة من الساحرات اللاتى يرحن ويجئن
معه , وسوكة الشيخ الملتحى الساذج الذى بهرته أضواء المدينة وغرته الدنيا
الزائفة أصبح ممن يملكون
الـ ( سكسوكة ) والبوكسر الأحمر الفاتن والسجائر الأوروبية, لقد أصبح اسمه
هو ( بودى ) أيضا ! لقد كان طفلا مغرما بالرجل الوطواط وحاول لأكثر من مرة أن يقفز من فوق سطح منزلهم لكن صرخات عم "ياسر" البقال كانت دائما تمنعه حتى تجذبه والدته
الـ ( سكسوكة ) والبوكسر الأحمر الفاتن والسجائر الأوروبية, لقد أصبح اسمه
هو ( بودى ) أيضا ! لقد كان طفلا مغرما بالرجل الوطواط وحاول لأكثر من مرة أن يقفز من فوق سطح منزلهم لكن صرخات عم "ياسر" البقال كانت دائما تمنعه حتى تجذبه والدته
ثم
تشبعه ضربا وتقبله فى نفس اللحظة , وبعد ذلك أصبح مغرما بـ "لوزة" لكنه
كان يخاف أن يفصح لها عن شعوره بالإعجاب خشية أن يركلة "عاطف" فى مؤخرته
أو يصفعه "تختخ" على قفاه . كان
طفلا بائسا بحق , وانتهى به الخيال الجماح لدفن جموحه فى انضمامه لجماعة دينية
وتحول إلى سوكة الشيخ , لكنه
الآن أصبح بودى ! يا للزمن العجيب !.
تمر
الأيام حافلة بالأحداث , فتجد نفسك تستعد لأن تهاجر للعمل فى قارة أخرى بعد سحب
استمارات السفارة الكندية والاسترالية
, توطئة لأن تصبح فعلا من شباب المهجر مثلك مثل الكثيرين من سنك واللذين اتخذو
الخليج العربي محطة
لهم .وبسنت التى كانت معك فى الأمس القريب تمت خطبتها وجاءت أمها الحيزبون أفعى
المامبا السوداء لمنزلك حاملة صينية من ( فقع الحريم ) وبعض البسكويت وتعانقك
بحنان غريب وتقول لك ( عقبال ما نعمل لولادك ياحبيبى ) . يالها من شمطاء !.
يأخذك
التفكير قليلا , فربما كان زوج زوج بالتأكيد يحب فى شبابه بسنت أخرى وكان يذهب
معها للمدرسة وهو طفل وقرأ من أجلها قصائد خليل مطران فى كتاب النصوص , لكنها
تزوجت من شاب آخر كان يحب بدوره بسنت أخرى فى صباه وقرأ من أجلها قصائد خليل مطران
فى كتاب النصوص بل ومن الممكن أنه كان يقوم بتأليف الشعر الردئ كالعادة ويقذفه
بمشبك الغسيل فى شرفتها أو يدونه خلف كشكول محاضراتها بخط مائع . وربما
أنا أيضا سأتزوج من بسنت أخرى لكنها ليست من كنت أذهب معها للمدرسة وأقرأ
من أجلها قصائد خليل مطران .
هيـــــــــــح .. كم هى جميلة تلك الذكريات .
هيـــــــــــح .. كم هى جميلة تلك الذكريات .
ولله
أسمى آيات الحمد لأننى لم أتزوج بسنت طبعا .
لكن
ذلك الترس الذى يدير الحياة لن ينتظر من أجلنا أو من أجل أحد آخر .. فهو يدور ولن
يتباطأ أو يتوقف ... ونحن ( تيـــــــــــت ) لن ( تيتيتيتـيـــــــــت ) نقدر على
( تيتــيــــــــت ) تحدى
القدر ( يارى يارى يارى ) .لقد تحولت الإشارة للون الأخضر وهذا هو سر
القدر ( يارى يارى يارى ) .لقد تحولت الإشارة للون الأخضر وهذا هو سر
الــ ( تيـــــت و اليارى) المزعج والضوء البراق الذى كاد يصيبنى بالعمى ليحثنى
على التحرك .. مهلا لقد اختفت الكاديلاك !!! انطلقت قبلى وأنا غارق فى التفكير .
سأحاول
اللحاق بها , فمازالت الفكرة تسيطر على جزء من تفكيرى حتى الآن .
كم
من الممكن أن تكون حصيلة اليوم من تلك السيارة ؟ وكم عدد الزبائن اللذين سيدفعون
ضعف الأجرة طواعية منهم للإستمتاع فى تلك الباخرة الأرضية .؟؟
ميكروباص
كاديلاك ! يا للروعة .
No comments:
Post a Comment