المقال منشور بجريدة الدستور الوطنى عدد الثلاثاء 30/04/2013
فى مدينة ما , لم تكن على هذا القدر من العزلة التى هى عليها الآن ,
لها جذور تمتد فى أعماق التاريخ لكنها لم تظهر ملمحا واحدا لشيخوختها كما بدى عليها
مؤخرا لدرجة تجعلك ترى فى تشققات الأبنية والطرقات العتيقة تجاعيدا تحكى ما وصلت
إليه من كهولة ومشيب , كل شيء فيها يؤهلها لدخول صفحات الزمن التى ينساها التاريخ
عن عمد وبرغم أن عراقتها كعراقة الموت نفسه إلا أنها لم تكن أقرب إليه كما هى الآن
, فلا تتبين إن كانت زفراتها الغاضبة هى تحذير ماقبل الانتفاض أم من ضجر انتظار
الموت .
وكعادة المدن التى تحترم تكرار التاريخ ينقسم سكانها إلى صنفين . الأول هم
السكان الساكنون وتعرفهم من عدم اكتراثهم بأى شيء . هو ساكن لايهمه سوى وقود
مدفأته الشحيح وفراشه القذر الذى بالكاد يتحمل رائحته وبقايا الطعام التى ستمنع
جوعه ليوم آخر قبل أن ينضم إلى جموع من ينتظر الفناء .هادئ لأنه مازال على قائمة
انتظار الهلاك ويبدأ فى التذمر عندما يعرف أن دوره قد حان , وأكثرهم أملا هو الذى
يعتقد أن الفرسان سيظهروا فى اللقطة الأخيرة لينقذوه من على الحافة . يظهر من
بينهم بعضا من الجهلاء وهو ليس جهلا بعلم بل ظلام الإدراك ذاته , فيمكنك خداعهم
بوعود ساذجة عن أى هراء وأضمن أنهم سيحرثون لك الماء دون أدنى شعور بالضيق .
أما
النوع الآخر فهم كالمسوخ التى تنتعش كلما فاحت رائحة الخراب ويحسبون أنفسهم على
قدر أسطورى فى التنظيم برغم أن هذا الإدعاء لا يرقى إلى طابور من الفئران يواجه
قطا شرسا فى زقاق . لاتستطيع حتى أن تجد اى اختلاف فى صورهم فكلهم يحمل ذلك الجزء
المشعر القصير حول الوجه فلا هى تبدو كلحية سكان بلاد المسلمين ولا هى تبدو كقذارة
تستوجب التنظيف . يعيشون كالعشيرة ويروجون لأفكارها الشاذة بين الناس فيقولون أن
بإمكانك الموت سعيدا وسط العشيرة طالما لن تتمكن من النجاة وسط ( الجوييم ) وغوغاء
الأرض . وكأى عشيرة كان لابد أن يكون لها قائدا لا يأتمرون إلا بأوامره ويحترمونه
كالأذلاء المكرهين على الطاعة . ولأنهم لم يعتادوا على الغضب والتذمر من سكان
النوع الأول ولأنهم لا يملكون رفاهية التفكير فيما يفعلون اجتمعوا ينتظرون قائدهم
واصطفوا فى وضع أشبه بالركوع حتى ظهر إليهم مترجلا فازداد انحناؤهم أمامه .
هو أيضا لايتميز عنهم كثيرا
فى الشكل الا فى قبعة "سوهارتو" الشهيرة وتصنعه لهدوء الحكيم الذى يبدو
معه كأبله , أشار لهم بالجلوس ففعلوا وسارع أقربهم إليه يقبل يده فى خضوع فارتسمت
على وجهه الخالى من الحياة ابتسامة جامدة كادت أن تتشقق على إثرها وجنتيه ثم
استعاد جموده المعتاد ونبرته الهادئة البلهاء وقال : يا ( خ 7 ) لقد سمعت أنك
تواجه بعض المتاعب مع الأغيار , اعلم أنهم لابد أن يتذوقوا ندرة الأشياء حتى
يشعروا بالامتنان عندما يحصلون على القليل منها , فكلما تفضلنا عليهم بإحساننا لن
يكفوا عن طلب المزيد فالقليل ترف والأقل يشبعهم . ثم أشار نحو أحد الجالسين وقال
يا ( خ 51 ) نحن نعرف أنك من أكثر الـ ( خ ) فى العشيرة طاعة وثباتا على مبادئ
أجدادنا من المؤسسين العظام , لهذا توسمنا الخير عندما اختارتك العشيرة لتكون
حاكما على مقاطعات الأغيار , وأنت تبلى بلاءا حسنا لكن عليك أن تحكم قبضتك أكثر ,لابد
أن نملك كل شيء وبسرعة , فكر فى كل ما لقنه لك الأساتذه وأفنوا وقتهم فى تدريبك
عليه وسأتركك تخلو بنفسك بضع ساعات ثم أعاود جلوسى معك لإبلاغك بما سوف تفعل , اذهب
واستعد .
أطرق ( خ 51 ) برأسه موافقا وتحرك إلى غرفته وأحكم إغلاقها عليه , نظر فيما
حوله نظرة فارغة ثم توجه إلى صندوق قديم وأخرج منه مرآه شبه مهشمة زادت تشوهه وقبحه اكثر مما يعكسه واقع ماهو عليه ثم وضعها أمامه
وتجرد من ملابسه تماما حتى ما كان يستر عورته وأخذ يرقص كمن مسه الجنون وهو يقول بتكرار
متناغم "أنا أحكم" ثم يثبت فى مكانه كصنم ويشير بإصبعه لصورته فى المرآة
وهو يتصنع الصرامة ويحذرها كأنها شخص آخر من العقاب إن لم تمتثل لأوامر العشيرة ثم
يضحك ويعود للرقص من جديد . ظل على حالته حتى أضناه التعب وارتمى نائما يشخر كجرار
, ولم يدرك أنه الفجر والمدينة القديمة تسعتد لاستقبال النور بكل مايحمله من خطر
على أمثاله .
K@ReeM
استمرارا للمغامرة .. هل تعرف مديحة ؟ حسنا , يمكنك الانتظار لأنها حكاية أخرى بالتأكيد .