Tuesday, February 4, 2014

بلاد الهـرى المقدس



في منتصف التسعينات توهجت القنوات الفضائية وأصبح على بعض القنوات استمرار البث المتواصل على مدار الساعة , فما كان من خريطة البرامج إلا أن تتضمن حشوا يسد فراغ الأوقات بطريقة تجذب المشاهد . كان من هذه البرامج في تلك الفترة على الفضائية المصرية برنامج "سباق الأغنيات" للمذيعة المتألقة آنذاك "هالة حشيش" وكان البرنامج باختصار هو سباق بين 10 أغنيات يتم التصويت لتحديد الفائز عن طريق "الفاكس" أو مكالمات الهاتف . وفى مرحلة ما دخل السباق أغنية للعملاق منير بعنوان " بره الشبابيك" والأغنية الأخرى للفتى الذهبى وقتها والذى كان بمثابة المتحدث العسكرى بالنسبة لفتيات جيله "مصطفى قمر" بعنوان "افتكرنى" .. خرجت "بره الشبابيك" من المنافسة في الأسبوع الأول بينما تربعت "افتكرنى" على عرش المسابقة لمدة شهر تقريبا . ولنترك التسعينات مؤقتا .

المهم .. هل تعرف "بروتاجوراس" ؟ لا أقصد الحذلقة طبعا , لكنه فيلسوف يونانى قديم يشار إليه أنه صاحب مدرسة الفلسفة الجدلية "السفسطائية" وهى قائمة بالكامل على فن من المراوغة اللفظية لتصل إلى درجة التشكيك في كل ما هو ثابت أو منطقى من باب إثارة الجدل أو كما نقول مؤخرا بالعامية المصرية "الهرى" . ماذا لو كان بروتاجوراس لم يسعفه سنه للتعريف بمدرسته الفلسفية ؟ بالتأكيد كان الاختراع سيسجل حديثا باسم المصريين حيث "بلاد الهرى المقدس" وهنا نقابل بعضا من أولئك اللذين لم يسعفهم الزمن للحاق بركب حقبة أحلامهم وسط آلهة الأوليمب . لايهم إن كانوا على صواب أم خطأ المهم أن تبقى الجدليات مشتعلة , الصراع مستمر , طاقتهم المتجددة الغير قابلة للفناء أو إعادة الشحن لابد أن يتم تفريغها في مصب مناسب .. "الثرثرة" طبعا .

وبالحديث عن "الهرايين" لابد وأن تصطدم في مقدمة الصفوف بقبيلة بنى ثورج وهى طبعا مجموعة بينها روابط من الغباء المتغلغل يصعب إزالته حتى باستخدام الجير الحى , وبغض النظر أنهم يعيشون في فقاعة وهمية من الأخلاق والمبادئ وحياتهم متوقفة على الإنتقام لدماء الشهداء وهو مايدفعك للتساؤل , ماذا بعد الانتقام لدماء الشهداء ؟ سيعتزلون العالم ويكفون عن الاستجداء السمج لعواطف الآخرين ؟  .. لكنهم كذلك مقسمين إلى أصناف .. النوع الأكثر تشددا وهو من قرر الاصطفاف مع جلاديه ليجنى متعة التلذذ بالاضطهاد . هو يرى الإخوان دائما أهون من الحكم العسكرى , الإرهاب والقتلى والدماء يمكن تداركه على موائد المفاوضات في المحافل الدولية وبعض الوزارات ومقاعد البرلمان حيث يمكنه الصراخ والزبد يتطاير من بين شدقيه يحسب نفسه أنه يمارس الديموقراطية أحب إليه من سماع "تسلم الأيادى" وسط بعض العبيد الراقصين من الجيل "العرة" الذى يفسد مسار الثورة المقدسة .

النوع الآخر مرتبط بركن الليمون ارتباط وثيق , حيث يعيش من رفع سقف التمكين لدى جماعة إرهابية من مجرد العمل السياسى الحر إلى طموح الحكم , فالحكم فعلا , فمحاولة الاستيلاء على الدولة . ورغم كل ماسببه من كوارث يجلس متفاخرا أن الثورة إن لم تحقق شيئا فهى كشفت الإخوان على حقيقتهم . يقولها وهو ينفث دخان لفافة تبغه بهدوء وعمق واستمتاع وهو لايعرف أنه بهذا التفسير الساذج وضع نفسه في مصاف كلاب "بافلوف" وتجاربه للتعلم بالاشتراط الاجرائى . لابد أن يعيش الكارثة ليثبت أنها كارثة فعلا وعندها يمكنه كثورى متفتح مناضل أن يتجاوزها .

نوعهم الأخير وهو الذى قرر مقاطعة الانتخابات لأن "حمدين" لم ينجح , وهو من يناشد "السيسى" بعدم الترشح لأن "حمدين" لابد أن ينجح . هو مؤمن بثورة ما لابد أن تحقق أهدافها ومؤمن أنه وزملاؤه هم حملة مشعل الضوء ولابد أن يتبعهم القطيع "الشعب" لأنهم قياداته المستنيرة ويعرفون متطلباته أكثر من نفسه ويؤمنون بحريته أكثر مما يؤمن هو .هم المبصرون في قرية العميان باختصار وهم ممثلو الثورة التي لابد أن تسود لينعم الجميع بالرخاء .

أما أحدث أنواع "الهرى" تأتيكم برعاية الفلول الأصليين لمصر ,, الهنود البينك ,, عشاق الأدرينالين الجدد اللذين اكتشفوا المؤامرة من اللحظة الأولى وقرروا محاربتها . عظيم , ماذا بعد ؟ لابد أن تعود الدولة لحدود ماقبل يناير . ممتاز , ثم ؟ لابد أن يعود مبارك لاستكمال مدته طبعا !. جرب أن تقول أنها نفس إشكالية الإخوان في عودة مرسى ليمطروك بوابل من أنهم لم يحملوا السلاح ولم يشيعوا الفوضى وانفكوا يضحكون على مصير "مجيدة" الحتمى من اللحظة الأولى وينتظروه بشغف المنتصر الواثق , وهى أرضية يجيدون استخدامها ببراعة مهما كانت تحمل من مبالغات وافتراض لذكاء لو توافر بين رجال النظام كما توافر في مسانديه لما عرضوا الدولة في وجودهم لهذه الهزة المدمرة التي كادت أن تقضى عليها لولا "قوة الدفع التاريخى" لمؤسساتها ( والتي أتى مبارك في وجودها ولم يؤسسها بالمناسبة ) . وفى محاولة لتلاف الجدليات إياها يمكننا وضع ملخص منطقى يقول أن "مبارك" قائد مصري تختلف معه ولايمكنك التشكيك في انتماءه حكم مصر كأى رئيس جمهورية له ماله وعليه ماعليه , لو رأيته أكثر من ذلك فأنت تبالغ , ولو نظرت له أقل من ذلك فأنت تسفه من قدر رجل حكم مصر لثلاثة عقود . وعلى مؤيديه أن تكون مهاراتهم في الملاحظة والتنبؤ بالمستقبل يقظة بما فيه الكفاية ليتمكنوا من مساندة الدولة التي تخلى مبارك كرجل يعى مسئوليته كمحارب عن رئاستها ليحافظ عليها في وقت حرج بغض النظر عن التهكم المتوقع الذى سيشير للدولة التي اعترف دستورها بـ "مجيدة" ! و بعض الـ هاهاهاهاها في نهاية كل جملة لأن لها نفس تأثير مسحوق الكارى في المطبخ الهندى .

جميع الأنماط لو شئت الدقة تحركهم جدلية الثورة وهى تتأرجح بين اعتبارها حركة مقدسة لايجوز المساس بالتابو الخاص بها وبين اعتبارها "مجيدة" لأنها لاتستحق أكثر من السخرية . هذا يعود بى للتسعينات مرة أخرى .. لقد أشرت في البداية أن "بره الشبابيك" خسرت في الأسبوع الأول بينما "افتكرنى" ظلت تتربع على القمة لمدة شهر . اقفز للعام 2014 الآن ودعنى أطرح عليك سؤالا قد يبدو تافها جدا .. أي من الأغنيتين تتوقع أنها انتصرت في معركة بقاء الجيد بين الفنون ؟


وبما أننى أحب بروتاجوراس فلدى جدلية ما لا أجد لها إجابات مقنعة حتى الآن . كل الإرهابيين تتباين أسماؤهم بين نمط واحد مثل أبو البراء وأبو القعقاع . والمفترض أننا بعد ثورة حطمت كل القوالب السابقة فلماذا لايجدد الإرهابى من نفسه ليصبح عصريا ؟ لماذا ليس هناك إرهابى إسمه أبو جنا المصرى ؟ أبو بسنت المصرى ؟ أبو هيفا المصرى ؟ تخلصوا من القولبة .