Monday, January 19, 2015

نـوسـتـالجيــا




هاه! يا لطوفان الذكريات القادم من أقصى بقاع الجهاز العصبي يا بسنت! إنه الحنين إلى الإحساس الأول بكل شيء وتذوق انفعالاتك معه. هذا الشعور الذى يقودك للتخلي عن واقعك وإغماض عينيك والإبحار في الماضي بلا سبب تشريحي أو فيزيقي محدد. وهذا هو السؤال الذى نسأله جميعا لأنفسنا، لماذا نحمل في أروقة ذكرياتنا كل هذا الحنين إلى الماضي؟

هل تذكرين كيف كان لقاؤنا الأول يا بسنت؟ ربما كان في يوم اندماج مجرتي درب التبانة وأندروميدا، ربما في اليوم الذي اقتنع فيه الإخوان أن "مرسي" لن يعود أبدا وأن الانقلاب لم يعد يترنح أخيرا! ربما كان يوم مباراة منتخب مصر الحاسمة ضد منتخب غينيا الاستوائية الذي خسرناه في الدقيقة الأخيرة والذي كان كفيلا في حالة الفوز بصعودنا لكأس العالم! الأكيد أننا التقينا عدد لا نهائي المرات في ملايين الاكوان والحيوات، وكان يوم لقاؤنا تاريخيا لدرجة أنه لم يحدث حتى الآن!

لنترك الماضي القادم من المستقبل قليلا! ولا داع لتلك النظرة المتسائلة يا بسنت، المستقبل ببساطة هو ماضٍ، لكنه لم يأت بعد! لنسترخِ ونسترجع بعضا من ذكرياتنا التي حدثت في الماضي القادم من الماضي.
بالنسبة للجيل الذي ننتمي إليه تعتبر فترة التسعينيات هي الكنز المفقود. مجرد أن ننظر إليها ينتابنا ذلك الشعور اننا نتحدث عن حياة أخرى من الماضي السحيق! كان كل يوم له طقوسه الخاصة طبقا لما سنشاهده في التلفزيون. في الجمعة كنا نبدأ يومنا بمراقبة الوقت حتى ينتهى برنامج "صباح الخير يا مصر" الممل والثابت كالأهرامات رغم السنين حتى يحين موعد أفلام الكارتون التي كانوا يقطعونها كالعادة لبدء بث شعائر صلاة الجمعة. يوم الجمعة كان حافلا بالمواد التليفزيونية فعلا مثل سر الأرض وعالم الحيوان ومسلسل هرقليز. وكانت النسخة البدائية من برامج "ريهام سعيد" تأتى في العاشرة مساءا تحت عنوان "بين الناس" ومن قبله كان "خلف الأسوار" وكان البرنامج الوحيد الذى اقتحم عالم السجون والعنف قبل أن تصبح تلك المشاهد اعتيادية بحكم تكرارها في حياتنا أو على الشاشات يوميا.

كما لا يمكن أن ننسى سحر "نادى السينما" وعيوننا المفتوحة حتى نهاية التترات، أو "تاكسي السهرة" ومشاهده الحصرية. أما الأربعاء فكان اليوم المفضل لدى الكثيرين بسبب برنامج "اخترنا لك" طبعا! كما ارتبط يوم الأربعاء برائحة إعداد "المحشي" استعدادا لغداء يوم الخميس الدسم! ويأتي الخميس بفقرة اليوم المفتوح وينتهى في السهرة مع برنامج "أوسكار" النافذة الوحيدة لروائع السينما العالمية وقتها.

لم يكن هناك برامج "توك شو" بمعناها المعروف لحسن حظنا، وكانت برامج التسلية في صورتها الأولية. ويكفي أن نذكر "كلام من دهب" لنسترجع بداية تكوين واحدا من أهم معالم الشخصية المصرية وهو الوقوف لمشاهدة أي تجمع به كاميرا والتلويح لها بحماس! ولا يهم إن كانت إجاباتك خاطئة أو ساذجة، سوف نظهر على التلفزيون! كان هذا كافيا ليتخطى الجميع شعورهم بالإحراج. نحن مشهورون الآن!

الشوارع كانت تهدأ تماما بحلول السابعة مساءا لأنه كان موعد الدراما اليومية التي كانت من أهم علاماتها مسلسل المال والبنون وأرابيسك. فمازلنا نذكر حتى الآن جملا أكسبها الزمن صفة التاريخية مثل "عباس الضو قال لأ" وأسماء الأبطال مازالت عالقة قى أذهاننا مثل "حسن بطاطا" وبعض الأماكن التي لم يجرؤ الزمن على الاقتراب منها مثل فيلا "زقزوق السكري". ناهيك أن موسيقى وأغان التترات كانت عالم منفصل بحد ذاتها.

وبغض النظر عن الكينونة الاشتراكية المميزة لدراما تلك الفترة وما قبلها، لكنها ترسخت في وجدان الجميع وبشكل لن تستطيع الدراما الحديثة منافسته لأسباب عديدة منها الابتعاد عن طبيعة وحقيقة المجتمع أو تجاهل التكوين الجديد للطبقات الاجتماعية ذاتها! وزيادة جرعة المعروض منها وتعدد مصادرها بالطبع.
حتى التسلية والألعاب كانت لا تزال بكرا، وكان من يملك جهاز "الأتاري" كان من أغنياء القوم وقتها! وربما أهداه إليه أحد أقاربه الذين يعملون في الخارج. وبرغم قلة أدوات التسلية المتاحة مقارنة بالأجواء العامة الآن كان اختراع أساليب التسلية أهم ما يميز تلك الفترة فعلا.

ماذا عن المدرسة؟ المريول الموحد والكراسات التي لابد أن يحتوي غلافها الخلفي على بعض الإرشادات. الطبشور الذى قد يصيبك أنت ومعلمك بالربو. وقطعة الإسفنج الخاصة بتنظيف السبورة التي يحافظ عليها "أمين الفصل" كعهدة يكلفه ضياعها عقاب أليم فعلا! ساندويتشات الجبن الأبيض بالطماطم أو الجبن الرومي بالفلفل، لم يكن معظم الآباء حينذاك يثق في هذا الاختراع الذى أطلقوا عليه اسم "لانشون" ولم تكن الجبنة المثلثات أو سهلة الدهن المعبأة في الكاسات الزجاجية قد غزت الأسواق بعد! حتى الأطعمة الجاهزة كانت في أبسط صورها، وللمفارقات الطريفة أن الشيبسى وقتها كان بأطعمة محدودة جدا مثل الملح، والفراخ بالكارى لسبب مجهول حتى الآن لماذا الكارى تحديدا! والطماطم كما تعني كلمة طماطم، حيث لم يكن "الكاتشب" قد اكتسب عالميته في مجتمعنا وقتها.

أما الأزياء فكانت عالم حافل! كانت أحلام شركات الأحذية الرياضية أن تجد طريقا تسويقيا لأبناء جيلنا، وكان عليها أن تقدم لنا اختراعا يقارع اختراع الحذاء المضيء وقتها! وكان ارتداء الجينز علامة مميزة لطبقتك الاجتماعية. وقبل اكتشاف "السويت شيرت" كان لدينا اختراع نسميه بالـ "هاى كول" وهو أشبه بفانيلة داخلية مزدوجة الطبقات ذات رقبة صالحة للثني لتبرز في مقدمتها نقشة مميزة تطل كخلفية زخرفية خلف قميصك المزركش طبعا. حتى الحجاب كان بسيطا ولم يكن بتعقيدات الألفية الجديدة، حيث كانت تبدو رؤوس النساء بأحجامها الطبيعية دون أن تحمل أطنانا من اللفافات القماشية لتجاري صيحة العصر! وكان هذا العصر هو عصر ما قبل العباءات السوداء والإسدالات بالطبع.

حتى عندما بدأت التكنولوجيا بالتسلل إلى حياتنا كانت تحمل قدرا لا بأس به من البساطة أيضا، ولنتذكر معا أن بداية ظهور "الدِش" كان عن طريق أجهزة استقبال تناظرية وليست رقمية كما هو الحال الآن! وبرغم جودة هذا الإختراع إلا أنه لم ينل من قدر التسلية والترفيه الذى كان يقدمه لنا "الفيديو" إلا بعد سنوات. الفيديو كان بمثابة صندوق الدنيا فعلا، أحد البوابات المحدودة التي كانت تقودك للسينما المحلية والعالمية رغم تشويه المترجم لأسماء الأفلام وإصراره على وضع بضمته الخاصة وللألفاظ خاصة فيما بتعلق بالسباب، واستمر هذا التشويه اللغوي لفترات غير هينة حتى عرفنا بعد ذلك ماذا تعني أغلب تلك الألفاظ على حقيقتها.


ربما تتساءلين الآن يا بسنت! لماذا كل هذه الذكريات؟ أنا في الحقيقة لا أعلم، ربما كانت الحاجة لأن تشعري أنكِ أصغر مما يشير إليه عداد سنواتك المستمر في الدوران والازدياد وكأنه يعمل بلا مكابح! أنك عشتِ فترة كانت الحياة فيها أبسط من كل التعقيدات المحيطة بنا الآن حيث يمكننا الشعور بالغضب والفرح والقلق بمشاعرنا الحقيقية دون أن ينوب عن ذلك أحد الوجوه التعبيرية في مواقع التواصل. أو ربما حاجتك لصنع تاريخ وتكوين كتاب ذكرياتك الخاص الذى سيزيد مع الوقت وسيتسع لاستيعاب هذا العصر الذى سننظر له بعد فترة أنه كان أفضل مما سوف نحياه! إنها الحاجة للذكريات يا بسنت. أرشيفنا الدائم للحنين، وبنك الشجن المتجدد عندما تحين لحظات البكاء الصامت.

====================================================

عزيزي، أنت تقرأ الآن جزءا من "المشروع"! وهو الثالث من حيث العدد والأول من حيث الاهتمام. ولو كنت مهتما أحيطك علما أنه فى مراحله الأخيرة .. أخيرا! لذا أرجو أن تكون كريما بما يكفى وتمنى لى التوفيق، بغض النظر عن استهدافى لجيوبك حين ستدفع قريبا مبلغا لا بأس به نظير قراءتك لى!